فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{أَفَلَا ينظرون إِلَى الإبل كَيْفَ خلقت (17)}
لما تقدم التذكير بيوم القيامة ووصف حال أهل الشقاء بما وصفوا به، وكان قد تقرر فيما نزل من القرآن أن أهل الشقاء هم أهل الإشراك بالله، فُرع على ذلك إنكارٌ عليهم إعراضَهم عن النظر في دلائل الوحدانية، فالفاء في قوله: {أفلا ينظرون} تفريع التعليل على المعلل لأن فظاعة ذلك الوعيد تجعل المقام مقام استدلال على أنهم محقوقون بوجوب النظر في دلائل الوحدانية التي هي أصل الاهتداء إلى تصديق ما أخبرهم به القرآن من البعث والجزاء، وإلى الاهتداء إلى أن منشئ النشأة الأولى عن عدم بما فيها من عظيم الموجودات كالجبال والسماء، لا يُستبعد في جانب قدرته إعادة إنشاء الإِنسان بعد فنائه عن عدم، وهو دون تلك الموجودات العظيمة الأحجام، فكانَ إعراضهم عن النظر مجلبة لما يجشمهم من الشقاوة وما وقع بين هذا التفريع، وبين المفرع عنه من جملة: {وجوه يومئذ ناعمة} [الغاشية: 8] كانَ في موقع الاعتراض كما علمت.
فضمير {ينظرون} عائد إلى معلوم من سياق الكلام.
والهمزة للاستفهام الإِنكاري إنكاراً عليهم إهمال النظر في الحال إلى دقائق صنع الله في بعض مخلوقاته.
والنظر: نظر العين المفيد الاعتبار بدقائق المنظور، وتعديته بحرف {إلى} تنبيه على إمعان النظر ليشعر الناظر مما في المنظور من الدقائق، فإن قولهم نظر إلى كذا أشد في توجيه النظر من نظر كذا، لما في {إلى} من معنى الانتهاء حتى كأنَّ النظر انتهى عند المجرور بـ: {إلى} انتهاءَ تمكن واستقرار كما قال تعالى: {فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك} [الأحزاب: 19] وقوله: {إلى ربها ناظرة} [القيامة: 23].
ولزيادة التنبيه على إنكار هذا الإِهمال قُيّد فعل {ينظرون} بالكيفيات المعدودة في قوله: {كيف خلقت}، {كيف رفعت}، {كيف نصبت}، {كيف سطحت} أي لم ينظروا إلى دقائق هيئات خَلقها.
وجملة: {كيف خلقت} بدل اشتمال من {الإبل} والعامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو فعل {ينظرون} لاَ حرف الجر، فإن حرف الجر آلة لتعدية الفعل إلى مفعوله فالفعل إن احتاج إلى حرف الجر في التعدية إلى المفعول لا يحتاج إليه في العمل في البدل، وشتان بين ما يقتضيه إعمال المتبوع وما يقتضيه إعمال التابع فكلٌّ على ما يقتضيه معناه وموقعه، فكيف منصوب على الحال بالفعل الذي يليه.
والمعنى والتقديرُ: أفلا ينظرون إلى الإبل هيئةِ خَلْقِها.
وقد عُدّت أشياءُ أربعة هي من النَّاظرين عن كَثب لا تغيب عن أنظارهم، وعطف بعضها على بعض، فكان اشتراكها في مرْآهم جهةً جامعة بينها بالنسبة إليهم، فإنهم المقصودون بهذا الإِنكار والتوبيخ، فالذي حسَّن اقتران {الإبل} مع {السماء} و{الجبال} و{الأرض} في الذكر هنا، هو أنها تنتظم في نظر جمهور العرب من أهل تهامة والحجاز ونجد وأمثالها من بلاد أهل الوبر والانتجاع.
فالإبل أموالهم ورواحلهم، ومنها عيشهم ولباسهم ونسج بيوتهم وهي حمّالة أثقالهم، وقد خلقها الله خلقاً عجيباً بقوة قوائمها ويسر بُروكها لتيسير حمل الأمتعة عليها، وجَعَل أعناقها طويلة قوية ليمكنها النهوض بما عليها من الأثقال بعد تحميلها أو بعد استراحتها في المنازل والمبارك، وجعل في بطونها أمعاء تختزن الطعام والماء بحيث تصبر على العطش إلى عشرة أيام في السير في المفاوز مما يَهلك فيما دونه غيرها من الحيوان.
وكم قد جرى ذكر الرواحل وصفاتها وحمدها في شعر العرب ولا تكاد تخلو قصيدة من طِوالهم عن وصف الرواحل ومزاياها.
وناهيك بما في المعلقات وما في قصيدة كعب بن زهير.
و{الإبل}: اسم جمع للبُعران لا واحد له من لفظه، وقد تقدم في قوله تعالى: {ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما} في سورة الأنعام (146).
وعن المبرد أنه فسر {الإبل} في هذه الآية بالأسحبة وتأوَّله الزمخشري بأنه لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب ولكنه أراد أنه من قبيل التشبيه، أي هو على نحو قول عنترة:
جادت عليه كل بِكر حرّة ** فتركن كل قرارة كالدرهم

ونُقل بهم إلى التدبر في عظيم خلق السماء إذ هم ينظرونها نهارهم وليلهم في إقامتهم وظعنهم، يرقبون أنواء المطر ويشيمون لمع البروق، فقد عرف العرب بأنهم بنو ماء السماء، قال زيادة الحارثي (على تردد لشراح الحماسة في تأويل قوله، بنو ماء السماء):
ونَحن بنو ماء السماء فلا نَرى ** لأنفسنا من دون مملكة قَصر

وفي كلام أبي هريرة وقد ذكر قصة هَاجَر فقال أبو هريرة في آخرها: إنها لأمّكم يا بني ماء السماء ويتعرفون من النجوم ومنازل الشمس أوقات الليل والنهار ووجهة السير.
وأتبع ذكر {السماء} بذكر {الجبال} وكانت الجبال منازل لكثير منهم مثل جَبَلَي أجإ وسلمى لطَي. وينزلون سفوحها ليكونوا أقرب إلى الاعتصام بها عند الخوف ويتخذون فيها مراقب للحراسة.
والنصب: الرفع أي كيف رفعت وهي مع ارتفاعها ثابتة راسخة لا تميل.
وثم نُزِل بأنظارهم إلى الأرض وهي تحت أقدامهم وهي مرعاهم ومفترشهم، وقد سَطَحها الله، أي خلقها ممهدة للمشي والجلوس والاضطجاع.
ومعنى {سطحت}: سُويت يقال: سَطَح الشيء إذا سوّاه ومنه سَطْح الدار.
والمراد بالأرض أرض كل قوم لا مجموع الكرة الأرضية.
وبُنيت الأفعال الأربعة إلى المجهول للعلم بفاعل ذلك.
{فذكر إِنَّمَا أَنْتَ مذكر (21)}
الفاء فصيحةُ تفريع على محصَّل ما سبق من أول السورة الذي هو التذكير بالغاشية وما اتصل به من ذكر إعراضهم وإنذارهم، رتب على ذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدوام على تذكيرهم وأنه لا يؤيسه إصرارهم على الإعراض وعدم ادكارهم بما ألقى إليهم من المواعظ، وتثبيته بأنه لا تبعة عليه من عدم إصغائهم إذ لم يُبعث مُلجئاً لهم على الإيمان.
فالأمر مستعمل في طلب الاستمرارِ والدوام.
ومفعول {ذَكِّرْ} محذوف هو ضمير يدل عليه قوله بعده {لست عليهم بمصيطر}.
وجملة {إنما أنت مذكر} تعليل للأمر بالدوام على التذكير مع عدم إصغائهم لأن {إنما} مركبة من {إن} و(ما) وشأنُ {إن} إذا وردت بعد جملة أن تفيد التعليل وتغني غَناء فاء التسبب، واتصال (ما) الكافة بها لا يخرجها عن مهيعها.
والقصر المستفاد بـ: {إنما} قصر إضافي، أي أنت مذكر لست وكيلاً على تحصيل تذكرهم فلا تتحرج من عدم تذكرهم فأنت غير مقصر في تذكيرهم وهذا تطمين لنفسه الزكية.
وجملة {لست عليهم بمصيطر} بدل اشتمال من جملة القصر باعتبار جانب النفي الذي يفيده القصر.
والمصيطر: المُجْبِر المُكْرِه.
يقال: صيطر بصاد في أوله، ويقال: سيطر بسين في أوله والأشهر بالصاد.
وتقدم في سورة الطور (37): {أم هم المصيطرون} وقرأ بها الجمهور وقرأ هشام عن ابن عامر بالسين وقرأه حمزة بإشمام الصاد صوت الزاي.
ونفي كونه مصيطراً عليهم خبر مستعمل في غير الإِخبار لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لم يكلف بإكراههم على الإيمان، فالخبر بهذا النفي مستعمل كناية عن التطمين برفع التبعة عنه من جراء استمرار أكثرهم على الكفر، فلا نسخ لحكم هذه الآية بآيات الأمر بقتالهم.
ثم جاء وجوب القتال بتسلسل حوادث كان المشركون هم البادئين فيها بالعدوان على المسلمين إذ أخرجوهم من ديارهم، فشرع قتال المشركين لخضد شوكتهم وتأمين المسلمين من طغيانهم.
ومن الجهلة من يضع قوله: {لست عليهم بمصيطر} في غير موضعه ويحيد به عن مهيعه فيريد أن يتخذه حجة على حرية التدين بين جماعات المسلمين.
وشتان بين أحوال أهل الشرك وأحوال جامعة المسلمين.
فمن يلحد في الإسلام بعد الدخول فيه يستتاب ثلاثاً فإن لم يتب قتل، وإن لم يُقدر عليه فَعلى المسلمين أن ينبذوه من جامعتهم ويعاملوه معاملة المحارب.
وكذلك من جاء بقول أو عمل يقتضي نبذ الإسلام أو إنكار ما هو من أصول الدين بالضرورة بعد أن يوقف على مآل قوله أو عمله فيلتزمه ولا يتأوله بتأويل مقبول ويأبى الانكفاف.
وتقديم {عليهم} على متعلقه وهو {مسيطر} للرعاية على الفاصلة.
وقوله: {إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر} معترض بين جملة {لست عليهم بمصيطر} وجملة: {إن إلينا إيابهم} [الغاشية: 25] والمقصود من هذا الاعتراض الاحتراس من توهمهم أنهم أصبحوا آمنين من المؤاخذة على عدم التذكر.
فحرف {إلا} للاستثناء المنقطع وهو بمعنى الاستدراك.
والمعنى: لكن من تولى عن التذكر ودام على كفره يعذبه الله العذاب الشديد.
ودخلت الفاء في الخبر وهو {فيعذبه اللَّه} إذ كان الكلام استدراكاً وكان المبتدأ موصولاً فأشبه بموقعه وبعمومه الشروط فأدخلت الفاء في جوابه ومثله كثير كقوله تعالى: {والذين قاتلوا في سبيل اللَّه فلن يضل أعمالهم} [محمد: 4].
و{الأكبر}: مستعار للقوى المتجاوز حدّ أنواعه.
{إِنَّ إِلَيْنَا إيابهم (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حسابهم (26)}
تعليل لجملة: {لست عليهم بمصيطر} [الغاشية: 22]، أي لست مكلفاً بجبرهم على التذكر والإيمان لأنا نحاسبهم حين رجوعهم إلينا في دار البقاء.
وقد جاء حرف {إنَّ} على استعماله المشهور، إذا جيء به لمجرد الاهتمام دونَ ردّ إنكار، فإنه يفيد مع ذلك تعليلاً وتسبباً كما تقدم غير مرة، وتقدم عند قوله: {إنك أنت العليم الحكيم} في سورة البقرة (32).
والإِياب: بتخفيف الياء الأوب، أي الرجوع إلى المكان الذي صدر عنه.
أطلق على الحضور في حضرة القُدس يوم الحشر تشبيهاً له بالرجوع إلى المكان الذي خرج منه بملاحظة أن الله خالقُ الناس خلْقَهم الأول، فشبهت إعادة خلقهم وإحضارهم لديه برجوع المسافر إلى مقره كما قال تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك} [الفجر: 27، 28].
وتقديم خبر {إنَّ} على اسمها يظهر أنه لمجرد الاهتمام تحقيقاً لهذا الرجوع لأنهم ينكرونه، وتنبيهاً على إمكانه بأنه رجوع إلى الذي أنشأهم أول مرة.
ونُقل الكلام من أسلوب الغيبة في قوله: {فيعذبه اللَّه} [الغاشية: 24] إلى أسلوب التكلم بقوله: {إلينا} على طريقة الالتفات.
وقرأ أبو جعفر {إيابهم} بتشديد الياء.
فعن ابن جني هو مصدر على وزن فِيعَال مصدر: ايَّب بوزن فَيْعَل من الأوب مثل حَوْقَل.
فلما اجتمعت الواو والياء وسبقت أحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فقيل: إيَّاب.
وعطفت جملة: {إن علينا حسابهم} بحرف {ثم} لإفادة التراخي الرتبي فإن حسابهم هو الغرض من إيابهم وهو أوقع في تهديدهم على التولي.
ومعنى (على) من قوله: {علينا حسابهم} أن حسابهم لتأكده في حكمة الله يشبه الحق الذي فرضه الله على نفسه.
وهذه الجملة هي المقصود من التعليل التي قبلها بمعنى التمهيد لها والإِدماج لإِثبات البعث.
وفي ذلك إيذان بأن تأخير عقابهم إمهال فلا يحسبُوه انفلاتاً من العقاب. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{هَلْ أَتَاكَ حديث الغاشية (1)}
قال بعض المفسرين: {هل} بمعنى قد، وقال الحذاق: هي على بابها توقيف، فائدته تحريك نفس السامع إلى تلقي الخبر، وقيل المعنى هل كان هذا من علمك لولا ما علمناك، ففي هذا التأويل تعديد النعمة. و{الغاشية} القيامة لأنها تغشى العالم كله بهولها وتغييرها لبنيته، قاله سفيان وجمهور من المتأولين، وقال ابن جبير ومحمد بن كعب: {الغاشية} النار، وقد قال تعالى: {وتغشى وجوههم النار} [إبراهيم: 50]، وقال: {ومن فوقهم غواش} [الأعراف: 41] فهي تغشى سكانها والقول الأول يؤيده قوله تعالى: {وجوه يومئذ}، والوجوه الخاشعة، وجوه الكفار وخشوعها ذلها وتغيرها بالعذاب، واختلف الناس في قوله تعالى: {عاملة ناصبة} فيها والنصب، التعب، لأنها تكبرت عن العمل لله في الدنيا فأعملها في الآخرة في ناره، وقال عكرمة والسدي: المعنى: {عاملة} في الدنيا {ناصبة} يوم القيامة، فالعمل على هذا هو مساعي الدنيا، وقال ابن عباس وزيد بن أسلم وابن جبير: المعنى: هي {عاملة} في الدنيا {ناصبة} فيها لأنها على غير هدى، فلا ثمرة لعملها إلا النصب وخاتمته النار.
قالوا: والآية في القسيسين وعبدة الأوثان وكل مجتهد في كفر، وقد ذهب هذا المذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تأويل الآية، وبكى رحمة لراهب نصراني رآه مجتهداً، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر القدرية فبكى، وقال إن فيهم المجتهد.
وقرأ ابن كثير في رواية شبل وابن محيصن: {عاملة ناصبة} بالنصب على الذم، والناصب فعل مضمر تقديره أذم أو أغني ونحو هذا.
وقرأ الستة وحفص عن عاصم والأعرج وطلحة وأبو جعفر والحسن: {تصلى} بفتح التاء وسكون الصاد على بناء الفعل للفاعل، أي الوجوه.
وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو بخلاف عنه وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن وابن محيصن، واختلف عن نافع وعن الأعرج {تصلى} تضم التاء وسكون الصاد، وذلك يحتمل أن يكون من صليته النار على معنى أصليته، فيكون كتضرب، ويحتمل أن يكون من أصليت، فتكون كتكرم.
وقرأ بعض الناس: {تصلى} بضم التاء وفتح الصاد وشد اللام على التعدية بالتضعيف، حكاها أبو عمرو بن العلاء، و(الحامية)، المتوقدة المتوهجة، و(الآنية): التي قد انتهى حرها كما قال تعالى: {وبين حميم آن} [الرحمن: 44]، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد، وقال ابن زيد: معنى {آنية}: حاضرة لهم من قولك آن الشيء إذا حضر، واختلف الناس في (الضريع)، فقال الحسن وجماعة من المفسرين: هو الزقوم، لأن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية أن الكفار لا طعام لهم {إلا من ضريع}، وقد أخبر أن الزقوم طعام الأثيم، فذلك يقتضي أن الضريع الزقوم، وقاله سعيد بن جبير (الضريع): الحجارة، وقال مجاهد وابن عباس وقتادة وعكرمة: (الضريع) شبرق النار، وقال أبو حنيفة: (الضريع) الشبرق وهو مرعى سوء لا تعقد السائمة عليه شحماً ولا لحماً، ومنه قول أبي عيزارة الهذلي: الطويل:
وحبسْنَ في هزم الضريع فكلها ** جرباء دامية اليدين حرود

وقال أبو ذؤيب:
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوي ** وعاد ضريعاً بان منه الخائض

وقيل (الضريع): العشرق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الضريع»: شوك في النار، وقال بعض اللغويين: (الضريع) يبيس العرفج إذا تحطم، وقال آخرون: هو رطب العرفج، وقال الزجاج: هو نبت كالعوسج، وقال بعض المفسرين: (الضريع) نبت في البحر أخضر منتن مجوف مستطيل له بورقية كثيرة، وقال ابن عباس: (الضريع): شجر من نار، وكل من ذكر شيئاً مما ذكرناه فإنما يعني أن ذلك من نار ولابد، وكل ما في النار فهو نار.
وقال قوم: {ضريع} واد في جهنم، وقال جماعة من المتأولين: (الضريع) طعام أهل النار ولم يرد أن يخصص شيئاً مما ذكرنا، وقال بعض اللغويين: وهذا لا تعرفه العرب، وقيل: (الضريع): الجلدة التي على العظم تحت اللحم، ولا أعرف من تأول الآية بهذا، وأهل هذه الأقاويل يقولون الزقوم لطائفة، والضريع لطائفة والغسلين لطائفة، واختلف في المعنى الذي سمي ضريعاً فقيل هو ضريع بمعنى مضرع أي مضعف للبدن مهزل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في ولد جعفر بن أبي طالب: (ما لي أراهما ضارعين)؟ يريد هزيلين، ومن فعيل بمعنى مفعل قول عمرو بن معد يكرب: الوافر:
أمن ريحانة الداعي السميع ** يؤرقني وأصحابي هجوم

يريد السمع، وقيل {ضريع} فعيل من المضارعة، أي الاشتباه لأنه يشبه المرعى الجيد ويضارعه في الظاهر وليس به. ولما ذكر تعالى وجوه أهل النار، عقب ذلك بذكره وجوه أهل الجنة ليبين الفرق، وقوله تعالى: {لسعيها} يريد لعملها في الدنيا وطاعتها، والمعنى لثواب سعيها والتنعيم عليه، ووصف الجنة بالعلو وذلك يصح من جهة المسافة والمكان ومن جهة المكانة والمنزلة أيضًا.
وقرأ نافع وحده وابن كثير وأبو عمرو بخلاف عنهما والأعرج وأهل مكة والمدينة {لا تسمع فيها لاغية} أي ذات لغو، فهي على النسب، وفسره بعضهم على معنى لا تسمع فيها فئة أو جماعة لاغية ناطقة بسوء.
قال أبو عبيدة: {لاغية}؛ مصدر كالعاقبة والخائنة.
وقرأ الجحدري {لا تسمع} بضم التاء، {لاغية} بالنصب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {لا يُسمع} بالياء من تحت مضمومة {لاغية} بالرفع، وهي قراءة ابن محيصن وعيسى والجحدري أيضًا.
{فِيهَا عين جارية (12)}
{عين} في هذه الآية اسم جنس، ويحتمل أن تكون عيناً مخصوصة ذكرت على جهة التشريف لها. و(رفع السرر) أشرف لها، و(الأكواب) أوان كالأباريق لا عرى لها ولا آذان ولا خراطيم، وشكلها عند العرب معروف. و{موضوعة} معناه بأشربتها معدة و(النمرقة) الوسادة، ويقال نمرقة بكسر النون والراء وقال زهير: الطويل:
كهولاً وشباناً حساناً وجوههم ** على سُررِ مصفوفة ونمارق

و(الزرابي) واحدتها زريبة، ويقال بفتح الزاي وهي كالطنافس لها خمل، قاله الفراء وهي ملونات، و{مبثوثة} معناه كثيرة متفرقة، ثم أقام تعالى الحجة على منكري قدرته على بعث الأجساد بأن وقفهم على موضع العبرة في مخلوقاته، و{الإبل} في هذه الآية هي الجمال المعروفة، هذا قول جمهور المتأولين، وفي الجمل آيات وعبر لمن تأمل ليس في الحيوان ما يقوم من البروك بحمله سواه وهو على قوته غاية في الانقياد.
قال الثعلبي في بعض التفاسير: إن فأرة جرت بزمام ناقة فتبعتها حتى دخلت الحجر فبركت الناقة وأَذِنَتْ رأسها من فم الحجر، وكان سريح القاضي يقول لأصحابة: اخرجوا بنا إلى الكناسة حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت، وقال أبو العباس المبرد {الإبل} هنا السحاب، لأن العرب قد تسميها بذلك إذ تأتيها أرسالاً كالإبل وتزجى كما تزجى الإبل في هيئتها أحياناً تشبه الإبل والنعام، ومنه قول الشاعر: المتقارب:
كأن السحاب دوين السما ** نعام تعلق بالأرجلِ

وقرأ أبو عمر بخلاف وعيسى {الإبل} بشد اللام وهي السحاب فيما ذكر قوم من اللغويين والنقاش وقرأ الجمهور: {خلقت} بفتح القاف وضم الخاء.
وقرأ علي بن أبي طالب {خلقت} بفتح الخاء وسكون القاف على فعل التكلم، وكذلك رفعت ونصبت {وسطحت} وقرأ أبو حيوة {رفعت} و{نصبت} و{سطحت} بالتشديد فيها، و{نصبت} معناه: أثبتت قائمة في الهواء لا تنتطح.
وقرأ الجمهور: {سطحت} وقرأ هارون الرشيد {سطحت} بشد الطاء على المبالغة، وهي قراءة الحسن، وظاهر هذه الآية أن الأرض سطح لها كرة، وهو الذي عليه أهل العلم، والقول بكريتها وإن كان لا ينقص ركناً من أركان الشرع، فهو قول لا يثبته علماء الشرع، ثم أمر تعالى نبيه بالتذكير بهذه الآية ونحوها، ثم نفى أن يكون مصطيراً على الناس، أي قاهراً جاهداً مع تكبر تسلطاً عليهم، يقال تسيطر علينا فلان.
وقرأ بعض الناس {بمسيطر} بالسين وبعضهم بالصاد، وقد تقدم وقرأ هارون {بمصيطر} بفتح الطاء وهي لغة تميم وليس في كلام العرب على هذا البناء غير مسيطر ومبيطر ومبيقر ومهيمن، وقوله تعالى: {إلا من تولى وكفر} قال بعض المتأولين الاستثناء متصل والمعنى {إلا من تولى} فإنك مصيطر عليه فالآية على هذا لا نسخ فيها وقال آخرون منهم، الاستثناء منفصل، والمعنى {لست عليهم بمصيطر} وتم الكلام، وهي آية موادعة منسوخة بالسيف ثم قال: {إلا من تولى وكفر فيعذبه الله}، وهذا هو القول الصحيح لأن السورة مكية، والقتال إنما نزل بالمدينة، و{من} بمعنى الذي. اهـ.